¤ الســـؤال:
كنت متزوجاً بامرأة، ولي منها ابن، وحصل بيني وبينها خلاف، فطلقتها، وأثناء فترة العدة حصلتْ مشادة كلامية بيني وبين أخيها، فأقسمت وقلت -إن لم تعد فلانة إلى بيتي قبل الفجر فهي طالق بالثلاثة-، فمنعها أخوها، ولم تعد، ولم أكن حينها قد راجعتها، وبعد فترة قليلة استفتيتُ فأُخبرت أني يجوز أن أراجعها، ولم أستقص هل وقعت الطلقة الثانية أم لا، وبعد فترة سنتين وقعت إشكالية كبيرة كان للأهل دور كبير فيها، فطلقتها، إلا أني وأثناء فترة العدة التقيت بطليقتي، ووقع بيننا ما يقع بين الأزواج، فإستفتيت أحد العلماء العاملين في القضاء في بلدي فأفتاني كتابيّاً أن الطلقة التي لم أستقص عنها لا تقع حيث إن طلاق المطلقة لا يقع، وأن الرجعة بمواقعتي لها صحيحة، وأشهدت بذلك اثنين من الزملاء، وأعلمت بذلك زوجتي، ولم أُعلم أهلها بسبب حدة الخلاف العائلي، وغضب أهلي مني إن علموا أني أرجعتها، إلا أني طلبت منها أن تصبر على ذلك ويستمر أمر الرجعة سرّاً حتى أتمكن من الإستقلال عن أهلي، وبعد مرور عام كنت ألتقي فيه بها سرّاً ويحصل بيننا أحيانا ما يكون بين الأزواج، أنعم الله عليَّ بفرصة السفر إلى الخارج لإكمال الدراسة، فاتصلت بها قبل سفري ب 10 أيام وأخبرتها أن مشكلتنا جعل الله لها حلاًّ، وطلبت منها الإنتظار شهراً أو شهرين، وسأخبرها كيف فتح الله عليَّ، وسافرت ولم أخبرها، وبعد سفري بأسبوع تفاجأت بأهلي يخبرونني أن طليقتي -كما يظنون- تزوجت! فأسقط عليَّ ولم أدر كيف أتصرف وأنا في الغربة، ولم أصدِّق، فحاولت الاتصال بزوجتي فأخبرتني أنها ظنت أنني كنت أخدعها طول الفترة، وأني غدرت بها، لأنها علمت أن فترة السفر لن تقل عن 5 سنوات، وادَّعت أنها إستفتت عالماً في الراديو هل تعتبر مواقعة الزوجة بغير نية الرجعة رجعة أم لا فأفتاها بوجوب النية، فاستفتيت وأُخبرتُ أنه من حقي أن أرفع قضية التفريق، أو أن أطلقها، على أن أبلغهم لكي تعتد من الطلاق، مع العلم أنهم زوجوها من غير أن يأخذوا مني ورقة الطلاق، وهو الشيء الذي كنت أعتمد عليه أن أبلغهم حين يطلبون ورقة الطلاق.
* الجـــواب:
الحمد لله...
= أولاً:
إن أحب أعمال جنود إبليس عنده هي التفريق بين الزوجين، ولا تزال الشياطين تتنافس بينها للحصول على شرف التقرب من إبليس والحوز على المكانة العالية عنده.
فعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً، يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: مَا صَنَعْتَ شَيْئًا، قَالَ: ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، قَالَ فَيُدْنِيهِ مِنْهُ -وَيَلْتَزِمُهُ- وَيَقُولُ: نِعْمَ أَنْتَ» رواه مسلم 2813.
وما نراه ونسمعه ونقرؤه من أفعال الأزواج يدل على نجاح الشياطين في مهامها، فنِسَب الطلاق في البلدان الإسلامية مهولة، ولو رجعت إلى أسبابها لرأيت القليل منها بسبب الدين! وأكثرها على أشياء تافهة من الدنيا، فيتعجل الزوج ويغضب ويطلق، ثم يكون تفريق الأسرة وتشتيتها، وضياع الأولاد ودمارهم.
فلعلَّ من يقرأ هذا أن يتأنى في طلاقه، وأن يحرص على لم شمل أسرته وإسعادهم، وأن يتجنب الطلاق، حتى لا يُدخل الشقاء على نفسه وأسرته.
= ثانياً:
ومن حيث العموم: فكثير من مسائل الطلاق فيها خلاف بين العلماء، وما يعلمه الزوج من الأحكام قبل تلفظه بالطلاق: فإنه يلزمه العمل بما يعلم، وما كان جاهلاً به: فإنه إن سأل من يثق بدينه وعلمه وأفتاه بشيء: فإنه يلزمه الأخذ به، ولا يحل له التنقل بين العلماء للحصول على فتوى أخرى، ولا ينبغي له التشكك في أثرها، فهو قد أدى ما أمره الله تعالى به من سؤال أهل الذِّكر، وأوجب عليه الإستجابة للحكم، وبخاصة إن كان ذلك الحكم صادراً من قاضٍ شرعي، فحكم القضاء يفصل في مسائل الخلاف، وجواب العالم الموثوق للسائل يلزمه الأخذ به.
= ثالثاً:
وما قاله له ذلك العالم من أن الطلاق لا يقع على المطلقة، قد إختاره جماعة من العلماء كشيخ الإسلام ابن تيمية، وإختاره من المعاصرين الشيخ ابن عثيمين.
= رابعاً:
وما قاله لك العالِم من أن جماعك لزوجتك يُعتبر إرجاعاً لها هو مذهب الحنفية والحنابلة، ولا حرج عليك من الأخذ بهذا القول لأنك فعلت ما أمرت به وهو سؤال أهل العلم، والمسألة من مسائل الإجتهاد التي إختلف فيها العلماء.
قال ابن قدامة رحمه الله: وظاهر كلام الخرقي أن الرجعة لا تحصل إلا بالقول وهذا مذهب الشافعي وإحدى الروايتين عن أحمد.
والرواية الثانية: تحصل الرجعة بالوطء سواء نوى به الرجعة أو لم ينو، إختارها ابن حامد والقاضي، وهو قول سعيد بن المسيب والحسن وابن سيرين وعطاء وطاوس والزهري والثوري والأوزاعي وابن أبي ليلى وأصحاب الرأي... إنتهى، المغني 8 / 482.
ونرى أن إعلامك زوجتك بالفتوى وإرجاعك لها، وإشهادك شاهدين على الإرجاع: قد يكون طريقاً منفصلاً عن الجماع في كونه إرجاعاً، فإعلامك لها وللشاهدين هو تصريح منك بإرجاعها.
وعلى كل حال فأنتَ قد إستفيتَ وأُفتيت بكونها راجعة، وإعلامك لها وإشهادك مقوٍّ للإرجاع إن لم يكن مستقلاًّ.
وعليه: فلا عبرة بما إدعته زوجتك من كونها إستفتت أحداً من أهل العلم فأفتاها بعدم الرجعة لكون الجماع كان بغير نية الإرجاع، لأنك قد إستفتيت وأعلمتها بالفتوى وأشهدت على ذلك، وبهذا تكون قد تمت الرجعة في كامل صورتها، وليس من سبيل للزوجة لمخالفة هذا.
= خامساً:
إخبار أهلك أو أهل زوجتك ليس شرطاً في الإرجاع، بل إن إخبار الزوجة نفسها ليس شرطاً، فقد يُرجع الزوج زوجته الرجعية وهي بعيدة عنه، فلا يشترط إخبارها ولا رضاها.
قال تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً} [البقرة:228].
قال القرطبي رحمه الله: وأجمع العلماء على أن الحُرَّ إذا طلق زوجته الحرة، وكانت مدخولاً بها، تطليقة، أو تطليقتنين: أنه أحق برجعتها ما لم تنقض عدتها، وإن كرهت المرأة،-تفسير القرطبي 3 / 120.
وكان الأولى إخبار أهلها بكونك أرجعتَ زوجتك لعصمتك، وعدم إعلامك قد تسبب في فعل منكر شنيع، وهو قيامهم بتزويجها، ظانين أن طلاقك وغيابك يجعل إبنتهم مطلقة طلاقاً تملك فيه النكاح.
وقد أمر الله تعالى بالإشهاد على الرجعة بقوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2]، من أجل قطع النزاع وتذكير الناسي، وتنبيه الغافل عن عدد الطلقات.
وقد أشار الفقهاء في حالة عدم الإشهاد على الرجعة أنه قد يحصل نزاع وشقاق بحصول الرجعة من عدمها، وأن المرأة قد تتزوج من آخر مدعية أنه لم تحصل رجعة.
ففي الموسوعة الفقهية 22 / 114:
ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ إعلام الزّوجة بالرّجعة مستحبّ، لما فيه من قطع المنازعة الّتي قد تنشأ بين الرّجل والمرأة.
قال العينيّ ما نصّه: ويستحبّ أن يعلمها، أي يعلم المرأة بالرّجعة، فربّما تتزوّج على زعمها أنّ زوجها لم يراجعها وقد إنقضت عدّتها ويطؤها الزّوج، فكانت عاصيةً بترك سؤال زوجها وهو يكون مسيئاً بترك الإعلام، ولكن مع هذا لو لم يعلمها صحّت الرّجعة، لأنّها إستدامة النّكاح القائم وليست بإنشاءٍ، فكان الزّوج متصرّفاً في خالص حقّه، وتصرّف الإنسان في خالص حقّه لا يتوقّف على علم الغير... إنتهى.
وعليك الآن: رفع قضيتك للمحكمة الشرعية، مع إبراز الفتوى الكتابية من ذلك العالم، وإحضار الشاهدين، لتثبت من خلال ذلك إرجاع زوجتك لعصمتك.
وإن استطعت إفهام الجميع هذا الأمر، دون اللجوء للمحكمة الشرعية: فحسنٌ.
وننبهك إلى أنك لو لم تكن تريد الرجوع إليها فإنه لا يحل لك السكوت عن الأمر، فيمكنك بعد تسوية الأمر تطليقها إن أردت، لكن إعلم أن سكوتك يعني بقاء نكاحها الثاني غير الشرعي مستمرّاً، وهذا أمر منكر شنيع.
ونسأل الله تعالى أن يوفقك لما فيه رضاه، وأن ييسر لك الخير.
والله أعلم...
المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب.